“Except that the dog is here and now, while its concept is everywhere and nowhere, always and never.”
ألكسندر كوجيف
حَرّ. ناس يتكلمون لغة غريبة ويعجّون شوارع أغرب. شوارع غير تلك التي اعتدت شكلها. يدي تقبض عليها يد أكبر. يد كانت مصدر كل الطمأنينة في العالم، حتى في تلك الشوراع الغريبة. بدأ حوار مع شخص مبتسم شكله غريب أيضاً. استمر الحوار لبعض الوقت، ثم نزلت اليدُ الأخرى من الجهة البعيدة عني وأعطتني شيئاً. كان ملمس الشيء خشناً وكان وزنه خفيفاً. لم يكن حاراً ولا بارداً، وكان يجب علي أن أمسكه بحيث يبقى متوازناً. عرفت أن الشيء للأكل. بعجلة، وضعت لساني على الشيء ووجدته بارداً جداً. بارداً ورائعاً. عندما وضعت أسناني عليه لم يخرج منه الكثير، ولكن ما خرج منه كان ثلجياً. كان يدخل فمي بارداً ثم أشعر بالثلج يتكسر على أسناني، ومن ثم ينطلق منه الطعم منتشراً في كل أنحاء فمي. بعدها يبدأ الشي بالذوبان على لساني. كان عليه ثلج، لا بل كان الثلج فيه. كان جزءاً منه. في المحاولة الثانية استخدمت لساني وأسناني، وعدلت من زاوية اقتراب فمي إليه. كانت المحاولة ناجحة وأخذت جزءاً أكبر من الشيء. هذا الشيء العظيم. هذا الشيء الذي قدمته لي تلك اليد الكبيرة المطَمئنة، في ذاك الشارع غريب الشكل، الذي كل ما أعرفه عنه هو أنه بعيد، بعيد كل البعد عن البيت. تحركت اليد الكبيرة، وتحركت معها، مستخدماً ما تعلمته لأبقي الشيء العظيم في مكانه بينما أسير في خطوات كبيرة لأواكب انطلاقة اليد.
كان هذا قبل أن تخونني اليد المطَمئنة، وتكشف لي عن وجهها الآخر. عن مقدرتها على الاختفاء، عن برودتها وجفائها، وعن قدرتها الهائلة في أن تهوي، دون أي تحذير، وبكل قوتها، على وجهي. لهذا السبب يا صديقي، فأنا آسف، ولكنني لا أستطيع قبول ما قدّمت. أنا لا أتناول إلا نكهة واحدة من البوظة. تلك البنية الغامقة. هي النكهة التي كانت ذاك اليوم. ذاك اليوم، عصراً أظنه كان. أو ظهراً. لا يهم. كان يوماً جميلاً. وفي كل مرة أتناول فيها البوظة، فأنا أكون أبحث فيها عن تلك النكهة. أريدها أن تكون مطابقة تماماً لتلك في ذاك اليوم. وإن لم تكن، ومهما كانت لذيذة، فإن أملي يخيب. ولحد الآن، فأنا للأسف، لم أجدها أبداً.
صدقني يا صديقي عندما أقول أني بحثت عنها. جربت المعلب والـطازج والغالي والرخيص. وضعت إعلانات في مجلات البوظة شارحاً المواصفات بالتفصيل الممل. ذهبت إلى مؤتمرات وحفلات تذوق. بحثت طويلاً. سافرت بلاداً وجبت أراض واسعة باحثاً عن تلك النكهة. ولكني لم أوفق أبداً. أعرف كيف أقول بوظة على نكهة شوكولاطة بثلاث وعشرين لغة. أكلت البوظة في عواصف ثلجية، في درجات حرارة سالبة، في قرى صغيرة في ريف الصيـن، وعلى قمم جبال عند قبائل أمريكا اللاتينية. بحثت في أوروبا وأمريكا ونيوزيلندة وإفريقيا. وجدت أقرب ما يكون إلى تلك النكهة في اليابان. ولكنها كانت ثلجية أكثر من للازم، والنكهة بحد ذاتها أضعف مما كانت عليه في ذاك اليوم. ذاك اليوم الذي لن أنساه ما حييت. مجرد لحسة واحدة، أعرف عندها فوراً أن مرامي خاب. أرميها وأنطلق متجهاً إلى مكان آخر أبحث فيه. لم أقم بواحدة من تلك الرحلات منذ سنتيـن. فلقد تقدمت في العمر كما ترى، كما أنني أنفقت كثيراً مما أملك في هذه الغاية. في المنزل أنا دائم الإطلاع على وصفات جديدة ومراجعات لما يتعلق بالبوظة، كما أن عندي عدة اشتراكات بمجلات ودوريات متخصصة في هذا الموضوع.
أمضي في هذا وقتاً كثيراً. أحياناً يمر باص البوظة بموسيقته العالية منادياً الأطفال. تجدني أركض إلى الشارع، سابقاً الأطفال في أكثر الأحيان. يرمقني الأطفال وأهلهم بنظرات ريبة. لا بل البائع نفسه يعاملني بجفاء. ولكنه يعرف الطلب. واحدة من كل نكهة شوكولاطة عنده. أحملها وأذهب، ويسعد الجميع بذهابي. لا يهم. المهم هو شيء واحد. أن أجد تلك النكهة، مجبولة بتلك الطريقة. أن يكون الثلج جزءاً من الشيء. في صميم الشيء. ليس مجرد قطع على السطح، أو بعض الثليجات في الأسفل. أصعب هذا جداً؟ أهو مستحيل؟ وها أنا الآن قد قاربت على الموت، وما زلت لم أجد تلك النكهة، ذاك الشيء.
في لندن اعتقدت أني سأجدها. ما أوقعني في غرام تلك المدينة، هو أنه لو كان هناك خمسة أشخاص في العالم أجمع، مهتمون بأمر مغمور وفي منتهى الغرابة، فستجد ثلاثة منهم في لندن، وعلى الأغلب أنهم سيكونوا قد نظموا نادياً أو جمعية بهذا الخصوص. اجتمعت بهواة البوظة هناك، لا بل وجدت ناديا مختصاً بعاشقي نكهتي بالذات، الشوكولاطة. كانت اجتماعاتنا أسبوعية، في حانة اسمها البطة والعجلة. كان يحضر الاجتماع عادة اثنا عشر أو ثلاثة عشر شخصاً. معظمهم في الأربعينات من عمرهم. نشرب البيرة ونتبادل القصص عن البوظة، وننظم رحلات لزيارة مكان جديد لجبْل البوظة في أوروبا أو في مدن بريطانيا الصغيرة. ولكنني سرعان ما استوعبت أن هوسهم يختلف عن هوسي. كنا عندما نصل إلى مكان جديد، ونتذوق ما عنده من نكهات بوظة، كانوا يستمتعون بها ويتذوقونها ببطء، ثم يحاولون وصف الطعم. "هذه فيها آثار لطعم البندق، كما أني أشعر بنغمات خفيفة للتفاح، وحليب كامل الدسم"، وآخر "أنا أحب هذه البوظة، فيها شيء غير اعتيادي، عندي شعور أن من صنعها أراد التحايل علينا، هذه شوكولاطة ولكنها ليست شوكولاطة، وأعتقد أن صانع هذه الخلطة نجح وتفوق علينا بمهارته". هذا بالنسبة لي كان هراءً. أنا كنت أبحث عن شيء محدد. كنت أتذوق البوظة، ثم أعرف فوراً ونهائياً أنها ليست ما أبحث عنه. أرميها دون أن أنهيها وأطلب النكهات الأخرى. في زيارة لجابِل بوظة في جنوب النمسا، كان جميع من في المجموعة ينهالُ بالمديح لما جربوه من بوظة، بينما جلست أنا صامتاً، فقد بقي هناك نكهة واحدة لم أجربها. كانوا قد اعتادوا على كوني الصامت المؤدب ولم يزعجهم وجودي. المهم، جربت النكهة الأخيرة، وكانت بعيدة كل البعد عما أبحث عنه. ما حصل عندها هو أنني وقفت في مكاني وضربت البوظة في الأرض. كنت أستشيط غضباً. نظرت في الجدار الأبيض المقابل إليَّ وقلت: “هذه أيضاً ليست هي". أصيب الجميع بالذهول، وصمتواً. تمالكت نفسي وحاولت أن أجلس في مكاني وأن أتابع السهرة كأن شيئاً لم يحصل، هم أيضاً حاولوا هذا. ولكن المحاولة لم تنجح. غادرت مبكراً وعدت إلى غرفتي في الفندق. طلبت ما لديهم من بوظة وجلست أشاهد التلفاز. عندما تركت الغرفة كانت هناك أربع علب مفتوحة في كل منها غَرفة ملعقة واحدة.
عندما عدنا إلى لندن حاولت أن أبقى عضواً في النادي، ولكن وصلتني رسالة تقول إن أعضاء النادي لا يشعرون أن اهتماماتنا واحدة، وأن "شغفي لبوظة الشوكولاطة هو من نوع آخر ولا يتماشى مع شغف المجموعة". لا أستطيع أن أنكر أنني شعرت بوحدة هائلة ذاك اليوم، وبشعور ثقيل، مرهق بأنني لن أجد أبداً ما أبحث عنه، ولكن أنني أيضاً، لن أتوقف أبداً عن البحث عنه. أنا لا أمر بفترات أتمنى فيها أن أتوقف عن بحثي هذا. هو ليس إدمانا كالتدخيـن أو الكحول مثلاً، تود أن تقلع عنه ولكنك تجد الأمر صعباً. لا. أبداً. هو أمر مصيري لا أملك ولا أريد الإقلاع عنه أبداً. سأبحث دون كلل أو ملل، سأبحث طالما سمحت لي صحتي بهذا، وبالقدر الذي تسمح لي به.
لقد أطلت عليك يا صاحبي ولا شك أنك مللت من هرائي. ولكن الموضوع فرض نفسه عندما قدمت لي هذه البوظة على نكهة الليمون، في هذا اليوم الحار الجميل. ولهذا وطمعاً في حسن ضيافتك وكرمك، فأطلب منك، إن تكرمت، وتفضلت، أن تذهب إلى البقالة، أو ترسل أحداً. لا بل أذهب أنا، لم لا أذهب أنا؟ أو نذهب أنا وأنت في كزدورة. هُم مجرد دقيقتيـن لا أكثر. من يعرف، ممكن أن نجدها هناك. هو احتمال بسيط، يؤول إلى الصفر، ولكنه موجود. والأمر يستحق التجربة. بالتأكيد يستحق التجربة. فلو أجدها … آه لو أجدها.